كيف نزل الوحي وأول ما نزل
ماهي السور المكية والمدنية
من كتاب فضائل القرآن ( مختصر تفسير إبن كثير )
الحديث اﻷول : حدثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان عن يحيى عن أبي سلمة قال أخبرتني عائشة وابن عباس قالا لبث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن وبالمدينة عشرا .
في هذا الحديث الذي أسنده البخاري أنه عليه السلام أقام بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن وبالمدينة عشرا فهو مما انفرد به البخاري دون مسلم وإنما رواه النسائي من حديث شيبان وهو ابن عبد الرحمن عن يحيى وهو ابن أبي كثير عن أبي سلمة عنها .
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام حدثنا يزيد عن داود بن أبي هند عن عكرمة، عن ابن عباس قال أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة ، ثم [ ص: 18 ] قرأ ( وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ) الإسراء : 106 . هذا إسناد صحيح .
أما إقامته بالمدينة عشرا فهذا ما لا خلاف فيه وأما إقامته بمكة بعد النبوة فالمشهور ثلاث عشرة سنة لأنه عليه الصلاة والسلام أوحي إليه وهو ابن أربعين سنة وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة على الصحيح ويحتمل أنه حذف ما زاد على العشرة اختصارا في الكلام لأن العرب كثيرا ما يحذفون الكسور في كلامهم أو أنهما إنما اعتبرا قرن جبريل عليه السلام به عليه السلام فإنه قد روى الإمام أحمد أنه قرن به عليه السلام ، ميكائيل في ابتداء الأمر يلقي إليه الكلمة والشيء ثم قرن به جبريل
ووجه مناسبة هذا الحديث بفضائل القرآن أنه ابتدئ بنزوله في مكان شريف وهو البلد الحرام كما أنه كان في زمن شريف وهو شهر رمضان فاجتمع له شرف الزمان والمكان ولهذا يستحب إكثار تلاوة القرآن في شهر رمضان لأنه ابتدئ نزوله فيه ولهذا كان جبريل يعارض به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل سنة في شهر رمضان فلما كان في السنة التي توفي فيها عارضه به مرتين تأكيدا وتثبيتا
وأيضا في هذا الحديث بيان أنه من القرآن مكي ومنه مدني فالمكي ما نزل قبل الهجرة والمدني ما نزل بعد الهجرة سواء كان بالمدينة أو بغيرها من أي البلاد كان حتى ولو كان بمكة أو عرفة وقد أجمعوا على سور أنها من المكي وأخر أنها من المدني واختلفوا في أخر وأراد بعضهم ضبط ذلك بضوابط في تقييدها عسر ونظر ولكن قال بعضهم كل سورة في أولها شيء من الحروف المقطعة فهي مكية إلا البقرة وآل عمران كما أن كل سورة فيها ( ياأيها الذين آمنوا ) فهي مدنية وما فيها ( ياأيها الناس ) فيحتمل أن يكون من هذا ومن هذا والغالب أنه مكي وقد يكون مدنيا كما في البقرة ( ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ) البقرة : 20 ، ( ياأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ) البقرة : 168 .
قال أبو عبيد حدثنا أبو معاوية حدثنا من سمع الأعمش يحدث عن إبراهيم بن علقمة كل شيء في القرآن ( ياأيها الذين آمنوا ) فإنه أنزل بالمدينة وما كان ( ياأيها الناس ) فإنه أنزل بمكة . ثم قال حدثنا علي بن معبد عن أبي المليح ، عن ميمون بن مهران ، قال ما كان في ( القرآن ياأيها الناس ) و ( يابني آدم ) فإنه مكي وما كان ياأيها الذين آمنوا ) فإنه مدني .
ومنهم من يقول إن بعض السور نزل مرتين مرة بالمدينة ومرة بمكة والله أعلم ومنهم من يستثني من المكي آيات يدعي أنها من المدني كما في سورة الحج وغيرها.
والحق في ذلك ما دل عليه الدليل الصحيح فالله أعلم وقال أبو عبيد حدثنا عبد الله بن [ ص: 19 ] صالح عن معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة قال نزلت بالمدينة سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والحج والنور والأحزاب والذين كفروا والفتح والحديد والمجادلة والحشر والممتحنة والحواريون والتغابن و الطلاق و التحريم و الفجر و الليل إذا و القدر و البينة و الزلزلة و النصر وسائر ذلك بمكة .
وهذا إسناد صحيح عن ابن أبي طلحة مشهور وهو أحد أصحاب ابن عباس الذين رووا عنه التفسير وقد ذكر في المدني سورا في كونها مدنية نظر وفاته الحجرات والمعوذات.
الحديث الثاني : وقال البخاري حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا معتمر قال سمعت أبي عن أبي عثمان قال أنبئت أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أم سلمة فجعل يتحدث فقال النبي صلى الله عليه وسلم من هذا أو كما قال قالت هذا دحية الكلبي فلما قام قلت والله ما حسبته إلا إياه حتى سمعت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يخبر خبر جبريل أو كما قال قال أبي فقلت لأبي عثمان ممن سمعت هذا فقال : من أسامة بن زيد وهكذا رواه أيضا في علامات النبوة عن عباس بن الوليد النرسي ومسلم في فضائل أم سلمة عن عبد الأعلى بن حماد ومحمد بن عبد الأعلى كلهم عن معتمر بن سليمان به .
والغرض من إيراد هذا الحديث هاهنا أن السفير بين الله وبين محمد صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام وهو ملك كريم ذو وجاهة وجلالة ومكانة كما قال تعالى ( نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين ) الشعراء 193، 194 ، وقال تعالى ( إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ) الآيات التكوير : 19 22 . فمدح الرب تبارك وتعالى عبديه ورسوليه جبريل ومحمدا صلى الله عليه وسلم وسنستقصي الكلام على تفسير هذا المكان في موضعه إذا وصلنا إليه إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
وفي الحديث فضيلة عظيمة لأم سلمة رضي الله عنها كما بينه مسلم رحمه الله لرؤيتها لهذا الملك العظيم وفضيلة أيضا لدحية بن خليفة الكلبي وذلك أن جبريل عليه السلام كان كثيرا ما يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم على صورة دحية وكان جميل الصورة رضي الله عنه وكان من قبيلة أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي كلهم ينسبون إلى كلب بن وبرة وهم قبيلة من قضاعة وقضاعة قيل إنهم من عدنان وقيل من قحطان ، وقيل بطن مستقل بنفسه والله أعلم [ ص: 20 ]
الحديث الثالث : حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا الليث عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال قال النبي صلى الله عليه وسلم ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة .
وفي هذا الحديث فضيلة عظيمة للقرآن المجيد على كل معجزة أعطيها نبي من الأنبياء وعلى كل كتاب أنزله وذلك أن معنى الحديث ما من نبي إلا أعطيمن المعجزات ما آمن عليه البشر أي : ما كان دليلا على تصديقه فيما جاءهم به واتبعه من اتبعه من البشر ثم لما مات الأنبياء لم يبق لهم معجزة بعدهم إلا ما يحكيه أتباعهم عما شاهده في زمانه فأما الرسول الخاتم للرسالة محمد صلى الله عليه وسلم فإنما كان معظم ما آتاه الله وحيا منه إليه منقولا إلى الناس بالتواتر في كل حين هو كما أنزل فلهذا قال فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا وكذلك وقع فإن أتباعه أكثر من أتباع الأنبياء لعموم رسالته ودوامها إلى قيام الساعة واستمرار معجزته.
الحديث الرابع : قال البخاري حدثنا عمرو بن محمد حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا أبي ، عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب قال : أخبرني أنس بن مالك أن الله تابع الوحي على رسوله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته حتى توفاه أكثر ما كان الوحي ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وهكذا رواه مسلم عن عمرو بن محمد هذا وهو الناقد والحسن الحلواني وعبد بن حميد والنسائي عن إسحاق بن منصور الكوسج أربعتهم عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد الزهري به .
ومعناه أن الله تعالى تابع نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا بعد شيء كل وقت بما يحتاج إليه ولم تقع فترة بعد الفترة الأولى التي كانت بعد نزول الملك أول مرة بقوله ( اقرأ باسم ربك ) العلق : 1 فإنه استلبث الوحي بعدها حينا يقال قريبا من سنتين أو أكثر ثم حمي الوحي وتتابع وكان أول شيء نزل بعد تلك الفترة ( ياأيها المدثر قم فأنذر ) المدثر 1 ، 2 .
الحديث الخامس : حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن الأسود بن قيس قال سمعت جندبا يقول اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين فأتته امرأة فقالت يا محمد ما أرى شيطانك إلا تركك فأنزل الله تعالى ( والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى ) [ الضحى : 1 3 ] .
والمناسبة في ذكر هذا الحديث والذي قبله في فضائل القرآن أن الله تعالى له برسوله عناية [ ص: 23 ] عظيمة ومحبة شديدة حيث جعل الوحي متتابعا عليه ولم يقطعه عنه ولهذا إنما أنزل عليه القرآن مفرقا ليكون ذلك في أبلغ العناية والإكرام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق